بين اليسار واليمين
"كوهلر" صديقي الألماني، التقيته في جامعة لندن حيث كنت مدعواً للحديث حول علاقة الشرق بالغرب، وكيف تطورت العلاقة إلى مواجهة حضارية بين الثقافات، وماذا علينا أن نعمل لدرء خطر الحرب الحضارية. كوهلر مازال على خطه القديم؛ فهو يساري حتى النخاع، يؤمن بقدرة الإمبريالية العالمية على فرض سيطرتها على الشعوب، ويرى أن الحرب على الإسلام، كما يقول، هي حقبة جديدة في هيمنة الإمبريالية العالمية. كنت اختلف معه في نقاشي وقلت له إن علينا أن نفهم المتغيرات الجديدة ضمن رؤية جدية؛ فلم يعد من الحكمة أن نعود إلى تحليلات ثبت فشلها كما أن اليسار، كما يحلو له أن يسمي نفسه، لم يعد يساراً، فاليوم أمامنا تصنيفات جديدة وعلينا أن نفهم أسباب إخفاق اليسار بأفكاره المتنوعة وأن نعي ضرورة فهم الواقع العالمي.
قلت له إني أوافقك على أنها مرحلة جدية في تطور النظام العالمي، فهذا النظام استطاع أن يطيح بالشيوعية كنظام عقائدي، وتحولت أوروبا الشرقية وسقط جدار برلين وتقسم الاتحاد السوفييتي وقيل لنا إنه النظام العالمي الجديد الذي انتقل من الحرب الباردة إلى مرحلة الهدنة، لعل العالم يلتقط أنفاسه ونفكر في قضايا الفقر والمرض والطفولة والجريمة ونطور آليات جدية للتفاهم الثقافي بين شعوب العالم، ولكننا انتهينا إلى مواجهة جدية؛ إنها الحرب الثقافية أو ما يسمى الحرب على الإرهاب، وهي مرحلة جديدة وخطورتها في كونها مواجهة حضارية قد تقود إلى صراعات عنيفة قد تكون أشد من الحرب الباردة.
الحرب الباردة بالنسبة لي هي الحرب الكونية الثالثة، فالحرب لا تعني بالضرورة مواجهة عسكرية، فالحرب تتطور مع تطور العالم وتصبح التقنية الحديثة، من إنترنت ووسائل اتصال وفضائيات، هي السلاح الجديد في فرض الهيمنة على العالم. وبالتالي فهي مواجهة ثقافية. لكن لا نريد لها أن تتطور إلى فرض نمط ثقافي بعينه على ثقافات العالم، بل نريد أن تحيي الثقافات وتتفاعل، كونها تمثل الهوية التي لا يمكن للإنسان أن يخلعها حيث جذورها ضاربة في القاع ولا يمكن لأية قوة عسكرية أن تمحيها من الاستمرار في وجودها.
أقول لصديقي إن الأزمة بيننا عميقة، ليس لأننا نؤيد القتل على أيدي "الخوارج الجدد"، وإننا لسنا مع التطرف والإرهاب، لكننا ضد أن يربط التطرف بالإسلام ونحصر حضارة كان لها وجودها وفعلها في العالم في دائرة الشر. نحن نؤمن بالتعددية الثقافية وندرك بأننا نختلف في مفاهيمنا الحضارية ونريد لهذا الفهم أن ينتشر بيننا. علينا أن نعي بأن صراع الثقافات من أشد الصراعات شراسة ودموية، فلا نريد أن تقودنا علاقاتنا المتوترة إلى مواجهة يمكن تجنبها.
في كل عام يعقد اجتماع لليسار العالمي في مدينة نيويورك، ويتبادل الحضور الأفكار في الظواهر العالمية المختلفة، وفي لقائهم الأخير تحدث البروفسور "كورنل" من جامعة برنستون الأميركية حول معنى اليسار... فقال إن الكراهية بين الشعوب هي ما يريد اليسار أن يسحقها، وشدد على القول "إننا نختار أن نكون طرازاً معيناً من الكائنات البشرية، وهذا هو السبب في أنها صيحة، وليست مهنة أو مجرد نشاط في مجال معين، كما أنها ليست حرفة، وإنما هو شعور المرء بأنه مدعو للقيام بعمل اجتماعي. وهذا هو السبب في أنك ترى هؤلاء المناضلين القدامى مازالوا هنا سنة بعد أخرى. ذلك لأنهم مقتنعون بأنهم لا يريدون أن يعيشوا في عالم لا يمارسون فيه ملكاتهم ومواهبهم الثقافية والسياسية والاجتماعية بطريقة ما... حتى يغادروا العالم، وهو أفضل قليلاً مما كان عليه عندما دخلوه... وهذا ما يعنيه أن تكون يسارياً. هذا ما قاله صديقي كوهلر عندما نقل لي ما دار في المؤتمر.